الإدارة الإستراتيجية.. لماذا؟!*
كثيراً ما نقرأ ونسمع عن مصطلح - أو كلمة - " الإستراتيجية " حيث يرد في بعض الكتابات، ويتردد على ألسنة بعض المتحدثين في البرامج الإعلامية، وتفرد له بعض الكتب في بعض الكليات المتخصصة..! وتستخدمه بعض وسائل الإعلام المقروءة..!
فما موقع هذا المصطلح في واقعنا المعاصر؟! هل نستخدم فعلاً الإستراتيجية في أي منحى من مناحي حياتنا؟! أم أنه مصطلح نتشدق به فقط..؟! وهل الإستراتيجية.. تستحق أن نستخدمها فعلاً..؟! وإذا كانت أمورنا الحياتية تسير بنا حيث تسير.. فما الذي يدفعنا إلى استخدام الإستراتيجية؟!
ووجدتني بعد هذه الأسئلة مدفوعاً إلى كتابة هذه الدراسة الإجمالية - وستتبع بدراسات تفصيلية إن شاء الله - عن علم من العلوم التي ألحقت به كلمة "الإستراتيجية" وهو: علم الإدارة الإستراتيجية. .
وأود بدايةً أن أوضح أن مفهوم أو عملية الإدارة الإستراتيجية طبقت ولا تزال تطبق بشكل أساسي في معظم بلدان العالم المتقدم، فتأخذ هذه الدول بالإدارة الإستراتيجية عامة.. والتخطيط الإستراتيجي خاصة.. في كل شؤونها.
وقد أخذت الشركات الصناعية، والمنظمات غير الربحية، والمؤسسات على اختلاف أشكالها وأحجامها، في تلك الدول المتقدمة بالإدارة الإستراتيجية أيضاً..! حيث أكدت دراسات عديدة أجريت على شركات ومنظمات أعمال أمريكية أن عدد الشركات والمنظمات التي اعتمدت مفهوم أو عملية الإدارة الإستراتيجية يفوق عدد الشركات والمنظمات التي لم تأخذ بهذا المفهوم، وأن المديرين الذين يأخذون بمفهوم الإدارة الإستراتيجية يعتقدون بأنه يؤدي إلى النجاح والنمو والاستمرار.
وقد دلت إحدى الدراسات التي قام بها كل من (ليون وهاوس) عام 1970 م على أن الشركات ومنظمات الأعمال التي أخذت بمفهوم الإدارة الإستراتيجية - وفي القلب منه التفكير والتخطيط الإستراتيجي - في قطاعات صناعة الأدوية والمعدات والآلات - وهي شركات تنظر إلى المدى البعيد - فاقت بكثير الشركات ومنظمات الأعمال الأخرى المماثلة التي لم تأخذ بهذا المفهوم.. وذلك في مؤشرات المبيعات ومعدل العائد على رأس المال المملوك والعائد على الأسهم والعائد على رأس المال المستثمر، وهذا كله يؤثر - سلبياً وإيجابياً - على استقرار ؛ بل ووجود الشركات ومنظمات الأعمال في المدى المتوسط والبعيد.
وعلى النقيض مما تقدم.. لم يهتم العالم الإسلامي، والعالم العربي - على مستوى الدول أو على مستوى الشركات والمنظمات أو الجامعات والكليات المتخصصة- بالإدارة الإستراتيجية إلا في السنوات القليلة الماضية، وعلى نطاق محدود..!
والآن دعونا نتعرف ماهية الإستراتيجية.. ثم نتحدث عن عملية الإدارة الإستراتيجية..
الإستراتيجية:
اشتقت كلمة " إستراتيجية " من كلمة " استراتيجوس " وهي كلمة يونانية الأصل وتعني فن القيادة.
وقد اقتصر استخدام مفهوم " الإستراتيجية " منذ عدة قرون على العمليات الحربية.. وانتقل بعد ذلك إلى مجال الأعمال في النصف الأخير من القرن الماضي (القرن العشرين)، حيث طبق بشكل واسع في الولايات المتحدة الأمريكية، وسرعان ما انتقل إلى أوربا، ومن ثم إلى بعض البلدان النامية.
وللإستراتيجية عدة مفاهيم منها:
- الإستراتيجية هي اتجاه ونطاق دولة ما.. أو شركة ما.. أو منظمة ما.. على المدى البعيد. فوجود إستراتيجية واضحة المعالم لأية منظمة.. تمكنها بلا شك من استخدام مواردها المتاحة واستغلالها بشكل إيجابي فعال ومؤثر - إن لم يكن بالشكل الأمثل - مما يمكنها من الوفاء باحتياجات كل الأطراف المتعاملة معها، والأفراد الذين ضمنها..!
- الإستراتيجية تعبر عن مسار يتم تفضيله، واختياره من بين عدة مسارات، بهدف تحقيق المنظمة أو الشركة أو...، رسالتها، وغاياتها، وأهدافها، ومن ثم تحقيق الاتجاه الذي ارتضته هذه المنظمة أو تلك الشركة لنفسها في المستقبل.
- مصطلح الإستراتيجية يطلق على الأهداف المحددة، وتحديد البدائل المتاحة، والاختيار بينها على أساس مقارنة التكاليف والفوائد المرتبطة بكل بديل، وتقييم كل البدائل، ومن ثم اختيار البديل الأفضل، والذي يطلق عليه البديل الإستراتيجي، ومن ثم توصيفه في برنامج زمني قبل التنفيذ.
الإدارة الإستراتيجية:
هناك العديد من التعريفات للإدارة الإستراتيجية لعديد من علماء الإدارة:
- يعرف Ansoff الإدارة الإستراتيجية strategic management بأنها: " تصور المنظمة (الشركة - المنشأة) لعلاقتها المتوقعة مع بيئتها بحيث يوضح هذا التصور نوع العمليات التي يجب القيام بها على المدى البعيد، والذي يجب أن تذهب إليه المنظمة، والغايات التي يجب أن تحققها.. "
- ويعرف (David 1995م) الإدارة الإستراتيجية: " هي علم وفن وصياغة وتنفيذ وتقييم القرارات الوظيفية المختلفة، والتي تمكن المنظمة من تحقيق أهدافها ".
- ويعرف Wheelen& Hunger 2004 الإدارة الإستراتيجية بأنها: " مجموعة من القرارات والتصرفات الإدارية التي تحدد أداء المنظمة في الأمد الطويل ".
- ويعرف الدكتور عبد الحميد عبد الفتاح المغربي 1999م الإدارة الإستراتيجية بأنها: " تصور الرؤى المستقبلية للمنظمة، وتصميم رسالتها وتحديد غاياتها على المدى البعيد، وتحديد أبعاد العلاقات المتوقعة بينها وبين بيئتها بما يسهم في بيان الفرص والمخاطر المحيطة بها، ونقاط القوة والضعف المميزة لها، وذلك بهدف اتخاذ القرارات الإستراتيجية المؤثرة على المدى البعيد ومراجعتها وتقويمها ".
ومن خلال التعريفات الكثيرة التي لا يسمح المجال بذكرها، يمكن أن نقول: إن الإدارة الإستراتيجية.. هي تصور منظمة ما لمستقبلها (مركزها، ماذا ستكون عليه في المستقبل..) على المدى البعيد، وهذا التصور يحتم عليها أن تصمم رسالتها، وتحدد غاياتها وأهدافها والوسائل التي ستتبعها للوصول لهذا المستقبل، وتحدد أيضاً كيف ستتعامل مع بيئتها الداخلية والخارجية، بما يمكنها من استيضاح نقاط القوة والضعف التي تتصف بها، والفرص والمخاطر المحيطة بها، وكل ذلك يهدف إلى أن تتمكن هذه المنظمة من اتخاذ قراراتها الإستراتيجية الهامة والمؤثرة على المدى البعيد، وأيضا مراجعة وتقويم تلك القرارات.
فعملية الإدارة الإستراتيجية جزء هام في منظومة الفكر الإداري، حيث تتضمن الإدارة الإستراتيجية تحديد وتصميم وتنفيذ ثم تقييم القرارات الهامة للمنظمة - الاقتصادية على سبيل المثال - ذات الأثر طويل الأجل.. وهذه القرارات تهدف إلى زيادة القيمة الاقتصادية - بزيادة حصتها السوقية -، وزيادة القيمة المضافة لهذه المنظمة، وللاقتصاد الوطني، ومن ثم المجتمع ككل.
كما أن عملية الإدارة الإستراتيجية في المنظمات التي لا تهدف إلى تحقيق ربح Non profit organization تسعى إلى زيادة قيمة المنظمة من خلال فعالية أنشطتها وكفاءة أدائها، والذي ينعكس على زيادة رضا المتعاملين والمستفيدين من خدماتها.
وثمة فروق هامة بين الإدارة العامة، والإدارة الإستراتيجية، والإدارة بالأهداف:
وهو أن الإدارة الإستراتيجية تختلف عن الإدارة العامة في توجهها الرئيس..ففي حين يتركز اهتمام الإدارة العامة بالشركة أو المنظمة من الداخل - بالعمل على تطبيق السياسات الموضوعة، وإنجاز الأهداف المحددة... إلخ - نجد تركيز واهتمام الإدارة الإستراتيجية أوسع من ذلك بكثير فهو يشمل المنظمة من الداخل والخارج في ذات الوقت.. فهي تنقب في البيئة الداخلية للمنظمة لتحديد نقاط القوة، ونقاط الضعف، وترصد وتراقب وتمسح البيئة الخارجية لتحديد الفرص المتاحة والتي يجب الظفر بها، فضلا عن تحديد المخاطر التي يحتمل أن تتعرض لها الشركة والعمل على الوقاية منها ودفعها.
والإدارة الإستراتيجية يقوم بها ويمارسها مديرون إستراتيجيون، لهم سمات وقدرات خاصة، أهمها سعة الأفق، وإعمال التفكير العميق، والأخذ بمبدأ المبادأة والبعد عن ردود الأفعال، ويتمتعون بمهارات خاصة تؤهلهم للابتكار والتجديد والإبداع، وهذه السمات وتلك القدرات الخاصة تمكنهم من الدراسة الفاعلية للبيئة الداخلية والبيئة الخارجية، مما تمكنهم من التفاعل معها بكفاءة عالية، ومن ثم تمكنهم من اقتناص الفرص التي تتهيأ لشركتهم أو منظمتهم، وتجنيبها المخاطر التي قد تتعرض لها أو تخفيف آثارها حين وقوعها، فضلا عن التحديد الواضح لمواطن القوة والضعف في شركتهم، والتي من خلالها يستطيعون الاستفادة من الموارد المتاحة لشركتهم أفضل استفادة.
والإدارة الإستراتيجية تركز أيضاً على استشراف المستقبل، وتعمل على تصميم غايات الشركة أو المنظمة - التي تأخذ بها - وتحديد أهدافها، وأنشطتها على المدى البعيد.. في حين نجد الإدارة بالأهداف تركز على تحقيق الأهداف قصيرة الأجل.
ومما سبق عرضه تتضح لنا أهمية الإدارة الإستراتيجية، وتتضح تلك الأهمية أكثر من خلال اعتماد الإدارات العليا في العديد من الشركات ومنظمات الأعمال العالمية على الإدارة الإستراتيجية وجعلها خياراً رئيساً لإدارة شركاتها ومنظماتها، ويرجع ذلك الاعتماد إلى تحديات العولمة، والظروف العالمية المتقلبة وغير المواتية، فضلا عن التحديات المحلية والإقليمية التي تواجهها تلك الشركات.. هذه التحديات المتشعبة لا تستطيع وسائل الإدارة التقليدية مجابهتها.. دون أدنى شك..!
وبعد ذكر التعريفات المختلفة للإدارة الإستراتيجية، وتوضيح الفروق بينها وبين الإدارة العامة (التقليدية) وبين الإدارة بالأهداف، وأيضا توضيح أهميتها بالنسبة لمنظمات الأعمال والشركات وغيرها..، لابد من ذكر أهداف وفوائد الإدارة الإستراتيجية، وكذا التحديات والصعوبات التي تواجهها، فضلا عن مراحل الإدارة الإستراتيجية (بشكل موجز - كما سبق وذكرنا -).
أهداف الإدارة الإستراتيجية وفوائدها للشركات ومنظمات الأعمال:
1- تمكِّن الإدارة الإستراتيجية الشركة من استشراف المستقبل برؤية واضحة مما يساعدها على اتخاذ القرارات الإستراتيجية.. حيث تفرض صياغة الإستراتيجية على الشركة دقة توقع الأحداث المستقبلية الإيجابية والسلبية على السواء، والاستعداد للتعامل معها، وهذا يساعد بلا شك على استقرار الشركة، فضلا عن السيطرة على مستقبلها، ومن ثم العمل على زيادة نموها..
2- تساعد الإدارة الإستراتيجية الشركة أو منظمة الأعمال على إعادة الهيكلة التنظيمية الداخلية، ووضع السياسات والإجراءات والقواعد والأنظمة، وتقدير ما تحتاج إليه الشركة من القوى العاملة بالنحو الذي يزيد من قدرتها على التعامل مع البيئة الخارجية بكفاءة وفعالية، فضلا عن إدارة موارد الشركة بكفاءة أكثر وفاعلية أرفع.
3- تساعد الإدارة الإستراتيجية الشركة أو منظمة الأعمال في تحديد عدة بدائل إستراتيجية ثم اختيار البديل الإستراتيجي الأفضل.
4- تساعد الإدارة الإستراتيجية الشركة أو منظمة الأعمال في تحديد الأولويات والأهمية النسبية لأعمال الشركة المختلفة سواء داخل أو خارج الشركة، وذلك عن طريق تحديد الغايات ووضع الأهداف طويلة الأجل والأهداف السنوية والسياسات التنفيذية لتلك الأعمال، وإجراء عمليات تخصيص وتوزيع الموارد المتاحة للشركة بالرجوع والاسترشاد بهذه الأولويات المحددة سلفاً.
5- تعمل الإدارة الإستراتيجية على توفير معايير موضوعية يسترشد بها في الحكم على مدى كفاءة إدارة الشركة وفعاليتها - دون استثناء - بدءاً من الإدارة العليا، ومروراً بالإدارة الوسطى، حتى الإدارة التنفيذية والمشرفين، وتساعد تلك المعايير أيضاً في زيادة فاعلية وكفاءة عمليات اتخاذ القرارات والتنسيق والرقابة واكتشاف وتصحيح الانحرافات المعيارية، أي بين المعايير والمنفذ.
6- تعمل الإدارة الإستراتيجية على تجميع البيانات والمعلومات باستمرار عن البيئة الداخلية للشركة، وذلك لتمكينها من تحديد نقاط القوة داخل الشركة والعمل على تنميتها، ونقاط الضعف والتهديدات والعمل على القضاء عليها أو التقليل منها، وتحديد نقاط القوة والضعف - بلا شك - يمكن المدير المسؤول من اكتشاف المشاكل مبكرًا ومن ثَمَّ يمكن الأخذ بزمام القيادة والمبادأة واتخاذ قرارات مدروسة من قبل، بدلاً من أن تكون القرارات ارتجالية في صورة رد فعل.
7- تعمل الإدارة الإستراتيجية على التركيز على البيئة الخارجية، وخاصة الأسواق التي تتعامل معها، والأسواق المستهدفة، وذلك انطلاقاً من أن استغلال الفرص ومقاومة المخاطر والتهديدات هو المعيار الأساسي لنجاح الشركات ومنظمات الأعمال.
8- وجود نظام للإدارة الإستراتيجية يتكون من إجراءات وسياسات وخطوات تنفيذية معينة.. اشترك في وضعها كل العاملين بالشركة، ليشعر هؤلاء العاملون بمدى أهميتهم، مما ينعكس على أدائهم، فضلا عن رفع روحهم المعنوية، ومن ثم زيادة الولاء لشركتهم.
9- تساعد الإدارة الإستراتيجية الشركة أو منظمة الأعمال على تحقيق أفضل النتائج من الناحية الاقتصادية والمالية، فهي توفر دراسة عميقة للبيئة الداخلية والخارجية، والتي تمكن الشركة من توظيف إمكانياتها بطريقة فعالة ورشيدة، وتمكنها من معرفة منافسيها بدقة، وتمكنها أيضاً من دراسة السوق ومعرفة أذواق العملاء والمستهلكين... إلخ.
Tidak ada komentar:
Posting Komentar